أمجد ريان



صفحة الشاعر المصرى الكبير ..
 أمجد ريان

مساحة فارغة
المكان تغير فى الشقة التى تواجهنى
وفى النافذة يأتينى الشارع كله
وهذه المروحة الهيكلية لاتزال
تطن فوق أشكال البيوت .

المروحة التى تزيق كلما
صارت الجدران كالحة
والصدأ غطى الغرفة التى
تجمّعت على ّ.

لم تعد عينى تسعفنى
فأضع المنديل على قورتى
غير مرتاح للمكان :
المرح الذى كان فى كل شىء
صار يتبدد
تحت الظلال المتقاطعة .

ليس هو الحىّ
صار كئيباً بالفعل
وحتى الكراسى الضيقة
لا تقول شيئاً .

كنت أحب أن أتمشى
فى السقوف المرصوصة
فصرت حبيس هذه المغربية
على المنضدة ذات الشهيق المغلق .

وحتى الشقة صارت
أمامى فى بعض الأوراق الفارغة
تهالكت
مثل الأحلام القديمة البريئة .

انقصف القلم
فى الزخارف العشوائية
وفى الذكريات المفقودة
وأنا فقدت رغبتى
على الباب .

كانت تطمئننى الكتابة التى أحبها
الآن صارت صدئة :
والمكانُ تغيّر .

غير مرئية تقيم معى الصورة الأخرى
وأخاف أن تموت
معى فى هذه الغرفة .

ألمسها وأصعد
فى مكان آخر
ولكن هل أنا
فى السلم المظلم
هل أنا أفَتَح الباب الخارجى
لأكلم ذاتى ؟

أخرج رأسى
بلا إجابة
لكننى أعود
للمساحة الفارغة ذاتها .

باردةٌ تضربنى الغرفة
ولم تعد هناك
صارت قديمة جداً
ولم يعد لها وجود .


عن الخوف القديم
لا يجرؤ على الوقوف
فالأولاد جعلوه بائسا
كلما اقتربوا أكثر .

أمام باب بيته ،
وصعوبة الأمر فوق الأسوار
هيئته بجوار المفاجأة
وفوق الأبراج :
الليل عائم بالمدينة .

فى الباب الحديدى العالى يحاول
وطويلا يشاهد الحركة
والصدأ الكثير الذى يتكون
ويتحرك فى أعشاشه
والشوارع ملتفة حول نفسها .

ما من شىء يملكه الإنسان
أبراج الكهرباء من بيته
كالشبكة التى تذهب عنه
والمساحة المضيئة بعض الشىء
تظل تتردد
فى مخيلته .

كبرنا وغادرتنا البيوت ،
وصباحاتنا الندية
ظلت مع الوقت تطير ،
لنشاهد الجدران العريضة أبداً
الجدران الزاحفة
نحو المجهول
الجدران الممزوجة بالجوع .

هو غالبا
كأى طائر حر
فى مدينته المظلمة دائماً
يتقاطع مع اقترابه
ولا يتناول الإفطار حتى
يتوزع تحت الأفق المنشور .

عد مسرعاً ليغمرك السور المرتفع
والأفق سوف يحلق ثانياً
وفى الحيطان المظلمة سيهبط ،
الى العالم من فوق
يتسرب الخوف
فى الممرات الضيقة
وفى باحة البيت
لايزال كوب الشاى ذابل .

سنكتشف ما لم نعرف
بينما منظره مألوف على الأريكة
هبطنا ببطء.. فى الملامح :
يلف جسده السواد
والجلبة لا تتوقف فى الخارج .

هل تعلم الأحلام
كيف يمضى الليل للعائلة ؟
وكيف تطعمنا المعانى ملحها
والأحزان لا تخلو مما تملكه أنت
ونحن معاً .

بالمساحة المضيئة
خوف يؤرق كل شىء
وكثيرا ما تتخيل نفسك
تمشى للبدايات
والعمال فى العلا يشيدون البناء .

حول الشبابيك تناثرت المشاهد
والعصفور يتلاشى فوق الأجنحة
والاتساع يهبط فى خطفةٍ
فوق المآذن المدببة .

البنايات من مكان إلى آخر
وكانت مساحة يفصلها جدار
وكل مرصوص فى السماء يتشكل
عليك أن تفتخر
بهذا التوسط فى مدينتا
وبما لديك
فأنت تغمر الضوء بلا انقطاع .

ماهذا الدبيب للفناء الواسع
وأنت الذى يتحدث :
عن الملامح التى تنظر
يحوى الحزن مرور اليوم
وإلى أسرارك الأسمنت يعلو .

مدينتا تعج بالجنود
والحوارات التى تتالى
حتى تمزق الجسر الوحيد
وفى المشهد البعيد
كان جدك قد قال : الغرباء والعسكر
سوف يخيمون على الأبواب .

أنت لازلت فوق الأحواش
تدقق النظر
وتحت القباب المنتفخة
وضعت يدك على رائحة الخبز .


كتب العشق نفسه
كَتَبت على الشباك :
الاخرى لعزلتى تظل
كتبت :
فى إحدى الأمسيات الحارة
زارت غرفتى الواسعة الضيقة .

حولى ، كنتُ أضحك
وهى التى تعطينى كل هذا
مساء الخير أيتها الطيور التى ترفرف
مساء الخير لهذا القدر من الإيحاءات البعيدة
والمرأة الوحيدة فى نفسها
تجىء بعفوية كاملة .

فراشى بعطر حاد
ولكنك أتيت
لتمتلئ أنوثتك
باغتراب الوجود
الاغتراب الحار
الذى بلا مثيل .

رميت بيأسى فى الهواء
وغرفتى تعزف
بنورك وسحرك
وبعزلة الخير أيتها المرأة
وبالدهشة الخصوصية .

الوحيد البعيد بخط يدى
والكمان المكسور مركون على المنضدة
و أنتِ لما عزفتِ
كتب العشق نفسه على الكمان
وأنا صرخت ببحة مجنون .

الكمان وأنا بَكَينا
فى غرفتي القديمة المقشرة :
فهل يريد أحد أن يفهم
رقصتى الوجودية
أحبكِ بقدر أى شىء :
أزيحي الستارة
وسيبقى التاريخ كله فى هذه الأمسية .

من تراب الوطن الحبيس
عرفتك أيتها المرأة
وأنت الحارة الرطبة ، فى الجهة الأخرى
وفى الأدراج ، وفى الكتابة
اجعلى الجسد
هنا وهناك ، وادخلى
حافة ديوانى .

نصى ظاهراً عند ذاك
يتبتل
وجميع العروش تقف ، وأنت
تعملين المكياج الذى لا يرد .

لا أبادل قـُبْلة منك
بالفضاء ، لأنك
العشق الذى ضاع منى .

قصائد قصيرة
الرحلة
مشى أمام مزلقانِ "السكةِ الحديد" ، أبكى بجوارِ مزلقان "السكة الحديد" ، وتتوقّفُ حركةُ السير ، عند مرورِ القطارات ، القطاراتِ التى أضحت متلاحقة ، عند مزلقان "السكة الحديد" ، وحيثما يقفُ البشر ، والبهائم ، عندما تمرُّ القطارات ، وكنت أنا واقفـاً ، أذرفُ الدموعَ  فى صمتٍ : من أجلِ ابنِ آدم ، ابنِ آدم الذى يصنعُ المعجزاتِ ، ابن آدم القادرِ على  دفنِ الأحياء  ، والقادرِ على بناءِ عماراتٍ عملاقة ، مثل عمارةِ يعقوبيان .

الخاضعون
هو الانتعاشُ الاقتصادى ، الانتعاشُ الذى نحلمُ به ، بينما ألعبُ أنا مع أصدقائى فى الطِّين ، وأغمسُ كفىَّ كاملين ، فى الطين ، لكى أشكِّلَه بقوة ، مع أصدقائى ، إننى أعجنُ الطين ، وأعجِّنُه ، وأصحابى يفعلون الشئَ نفسَه ، فى الوقتِ الذى تنتشرُ فيه الأقاويل ، عن موتِ الطفولة ، ويقفُ رئيسُ المجلسِ على المنصَّة ، ويقول : أحبُّ التاريخ ، وفلسفةَ التاريخ ، وهو فى حقيقةِ الأمر : لا يحبُّ النساء ، منكساتِ الرؤوس
النساءَ الملتهباتِ بالبلهارسيا ، يمشين بتؤَدة ، بجوارِ سورِ المستشفى ، تحت ضوءِ المصابيحِ الخافتة ، كان رئيسُ المجلس ، يُشبهُ البهلوان ، فوق المنصَّة : ببذلةٍ حمراء ، و"كرافتةٍ" صفراء ، وحذاءٍ بمقدمةٍ رفيعة ، طويلة ، تلمعُ بشدة .

أم الدنيا
كان "الحوشُ" مكشوفًا لشمسِ الصعيدِ الساخنة ، تتوزَّّّع فيه أَسِرَّة الجريدِ وأصصِ نباتِ الصبَّار ، والفُرُشِ والبُسُطِ من صوفِ الخراف ، ووبرِ الجمال ، وجلودِ الحيوانات ، وفى الليلِ تطيرُ الأشباحُ بنعومةٍ فوق "الحوش" ، ثم تواصلُ طيرانها حتى تصلَ إلى القاعةِ التى يصفِّق فيها الجمهورُ طويلاً ، بينما القملُ يرعى فى رؤوسهم وأجسامهم ، وهم يكبِتون الحقدَ الطبقىََّ فى أعماقِهم ، ويظلون يضحكون على جُحا بلا معنى ، ويرسلون أبناءَهم للحصول على دبلومات التجارة .

رقصة الحصان
فى الماضى كان الفلاحون يبنون بيوتهم من الطينِ والتبن ، والآجُرّ، وأنواع الطَفْلَة ، ويقولون : يدٌ تبنى ، ويدٌ تحملُ السـلاح ، إنهم البشر العاديون الذين يمرُّون فوق الكوبرى القديم ، ويتسكَّعون إلى جوارِه ، ثم يدخلون إلى كتابِ "الجبرتى" ليفعلَ بهم الأفاعيلَ ، ويقولُ عنهم الأعاجيب.. إنهم يخرجون بعد ذلك من كتابِ "الجبرتى" ليتفرَّجوا على قنواتِ الدِّش ، أو يتسكعون فى المِنطقةِ السياحيّةِ بجوارِ فرقةِ المزمارِ البلدى ، الفرقةِ التى يتلوى أفرادُها كالثعابين ، والسائحةُ الجالسةُ فى طرفِ المشهدِ تلحسُ من "برطمانِ" عسلِ النَّحل ، أما الجمهورُ العريض ، فلم يدفع الفاتورةَ بعد ، إنه جمهورٌ خاملٌ يدفعُ المتسرعين إلى اختزالِ الوطن .

أمة تغيب فى ميدان سليمان
نخافُ من تلاوةِ الحسد ، وننظرُ نحو ثيابِ البناتِ ، بينما نشربُ من أكوابِ "الزنجبيل" ، والأعشابِ المنقوعةِ المطبوخة ، نشربُها وعيونُنا هناك ، تُراقب عسكرى المرورِ ، وهو يحرِّك ذراعيه الخشبيين بعصبية ، لينظّمَ المرور ، مرورَ الشبابِ الذى تعلّم "البانجو" ، وسار تحت شعارِ الخِرَفِ العقلىِّ ، لكى يجارى زمنَ الخصْخَصْة ، ونحن جالسون فى الطقسِ المضطرب ، نقرأ جورنالَ القهرِ الاجتماعى ، لفَّةُ القماشِ تحت الإِبطِ ، والذواتُ المنتَهَكَةُ ساعيةٌ لكى تمارسَ ردةَ الفعل ، وهكذا سيظلُّ الضحكُ ملءَ الشدقين ، وأنا واقفٌ على ناصيةِ "طلعت حرب" ، أزدردُ ساندويتش "الشاورمة" ، وأتذكَّرُ صمتَ المقابر .

لم أشتر التذكرة بعد
أحبُّ أن أقرأ القَصَصَ فى المترو ، والمرأةُ الحاملُ ظلت قرابةَ الساعةِ واقفةً فى "المترو" دون أن يتبرَّعَ لها أحدٌ بمقعدِه ، نحن شعبٌ ممتزجٌ بالأساطيِر والمبالغات ، يرقدُ الموتى تحت الأرضِ منتظرين ، ونحن منكبون على وسائلِ التسليةِ والمتعةِ وسوءِ الحظّ ، والشمسُ متسلطةٌ على الرؤوسِ والأنفـاسُ تتلاحق ، بينما نتلقّى التعليماتِ من الكبار ، والعَرَقُ يتصبَّبُ فوق الجسدِ غزيراً فى الوقتِ الذى يتفشّى فيه الصمتُ التام ، وعندما وصل المترو كان مكتبُ ناظرِ المحطّةِ خاوياً إلا من كوبِ شاىٍ فارغٍ ، وصينيةٍ صدئة ، وأنا فقدتُ الوعىَ للحظات ، وحقائبُ وأمتعةُ القادمين تسقطُ فوق رأسى ، فأصرخُ بكلِّ قوتى : لقد ميَّعوا فكرَ الشَّباب ، والإعلامُ صار لا يخصُّنا على الإطلاق ، وكان ألَمٌ مُبرِّحٌ فى الدِّماغِ ، والمترو يصفرُ صفيراً مرعباً .

داخل الغرف وخارجها
سأسير سيراً ناعماً خفيفاً فوق الحشائش ، داخلَ الطقسِ الجنائزىّ العارمِ ، سأمشى دائخاً أتخبَّطُ فى الحوائط ،  أنصتُ إلى "الراديو" دون أن أعرفَ مكانه ، والكرةُ الأرضيَّةُ تهتزُّ وهى تدورُ فوق مزيدٍ من الدِّماء والجثث ، وعربةُ القطارِ المهجورةِ وقفتْ خلف أرضِ السّوقِ القديم ، والنَّاس يثرثرون ويثرثرون دون أن يحقّقوا أىَّ شىء ، أصواتُ الضيوفِ فى الغرفةِ الخارجيّة ، وأصواتُ النّاسِ فى الشارعِ تأتى من النافذة ، ولكن لا أحد يحقِّقُ شيئاً ، ولا يعرفون سوى ظلامِ المصيرِ المجهول ، وهاهى الغرفةُ الفارغةُ المبلَّطةُ بالسيراميك تلمعُ أمامى بقوة ، وأنا واقفٌ أتفرَّجُ كالتمثال ، شاعراً بالحزنِ العميق .

السبتية
منذُ الليلةِ الأولى حطَّ الحزنُ العظيم ، الأولادُ فى الشارعِ كانوا يلعبون مباراةَ كرةِ شراب ، وكرةُ الشّرابِ هى جوربٌ محشوٌ بالقطنِ ومُغطى بالخيوط ، ومنذ الليلةِ الأولى بدأ استقبالُ العزاء ، والطيورُ الجبليّة العمياءُ أنَّت ، وَخَلَتْ أراجيحُ الأطفالِ تماماً ، وعندما ألقى الصبىُّ الصغيرُ بالكرةِ المطاطيَّةِ نطَّتْ ثلاثَ نطَّاتٍ واستقرتْ أخيراً بجوارِ عزرائيل ، وكان البيتُ القديم قد صار قديماً جداً جداً ، تقشَّرت واجهتُه ، وأصبح لمدخلِهِ رائحةٌ عطنةٌ ، والحارةُ كانت ساكتةً جداً وفى آخرِها كانت تتحرَّكُ ببطءٍ جِنازةُ "عبدُ الناصر"  ..

المنجمون
هذه المرأة عملُها هو ثَقْبُ آذانِ البنات ، وثقبُ أذُنِ البنتِ له مستقبلٌ كبير، وينتظرُه قِرْطٌ بشكلِ الهلال ، تضعُهُ الفتاةُ ، وتجعلُهُ يهتزُّ للأمامِ والوراء ، فى الوقتِ الذى تلعبُ فيه الجنيَّةُ بالقربِ من التِرعة ، ويجلسُ الرجالُ الخائفون على المقهى وقد نكَّسوا رؤوسَهم لشربِ المعسِّل والشاى ، وقد نسـوا تماماً أولئك الذين سُجنوا من أجلِ رأيِهم ، وقد نسوا تماماً أولئك الذين سُجنوا من أجلِ كلمتِهم ، وأنا كدتُ انكفئُ على وجهى ، عندما خرجتُ من البابِ المفتوحِ فجأةً ، ورأيتُ الوطنَ أمامى هكذا : صامتٌ وفى أعماقِهِ كلُّ هذا الألم .

" شخص يضحك فى عرض الشارع " وقصائد اخرى
شخص يضحك فى عرض الشارع
واقفاً أعد القهوة، عقلى يقلب الأفكار، ويدى تمتد لتناول الأشياء، ولسانى يترقب هذه النكهة الكثيفة، أوراق النتيجة بجوار الثلاجة لم أنزع أوراقها منذ أيام، وأنا أتحرك بخطوات بطيئة، أضع قرصاً من الأسبرين فى فاظة الأزهار الميتـة، وأنظر فى المرآة: ذقنى تحتاج للحلاقة ذقنى البيضاء المشعثة، سألتقى بالزملاء بعد نصف ساعـة، سيُسمعوننى آخر نكته، وسيستغرق الجميع في الضحك، لأن شعبنا هو الشعب الضاحك فى كل الظروف، حتى لو جوبهنا بالعولمة، وما أدراك ما العولمة، سيقف فى مواجهتها السيد عمرو موسى، بمشاركة معاونيه جميعاً، وسيفضحون هذه الإجراءات الهيكلية التى تعنى التنافس على الصعيد العالمى، فتكسب الدول الكاسبة أكثر فأكثر، وتخسر الدول الخاسرة أكثر فأكثر.
اقرأوا الكلاسيكيات، من فضلكم، وتأملوا الحبكة والوصف، لتعرفوا رغبة الإنسان منذ البداية فى الدقة والتقصى، ورغبته فى التحليل، ادخلوا إلى شبكة النت، وافتحوا البريد الإلكترونى للأطفال، لتتعرفوا إلى هذا الجوع للوصول للآخرين، ورغم المناطق المشفرة، هناك محاولات مستميتة للاختراق والمطاردة، وها أنذا أجلس أمـام الكومبيوتر، وأنظر فى الشاشة العميقة، ينتقل عقلى من مكان إلى مكان من خلال وثبات الوعى الهائلة، تدور فى رأسى التفاصيل، والدقائق الصغيرة التى تدفعنى للاستجابة الى الضحك، كل شىء يمكن أن ينقلب رأساً على عقب، يجب أن نكون مستعدين للتغيرات الحادة، يجب أن نقوى عزائمنا، وأن نقف بأجسامنا فى مواجهة الموت: نقف بأجسام مثلِ الصخور، هى أجسامنا، بكل مايغطيها من إفرازات العرق والدهون والدموع والمخاط والعصارات الحمضية والإنزيمات والأمونيا.
وحده "فرويد" الذى يعرف: لماذا لم يحلق صدام حسين ذقنه بعد القبض عليه، وهو وحده الذى يعرف لماذا فى التاسعة عشرة من عمرى قررت اطلاق ذقنى، ولا أدرى لماذا وكيف اتخذت هذا القرار. ربما تولدت لدى فكرة ما عن الرجولة، وها أنا ذا أتذكر المسألة بعد أن مرت كل هذه السنين، وأصبح لمفهوم الرجولة لدى معان أخرى شديدة الاختلاف، أسمع صوت النهيق العارم آتياً من الشارع ، وعلى شاشة التلفاز هذا الفيلم الذى لعب فيه مقص الرقيب لعباً عظيماً ، ولكن ذهنى يمكن أن يتخيل اللقطات التى قصّوها ، أمد أصابعى للأمام ، أصابعى امتداد ٌ ظاهر لعالم خفى لا يعلمه أحد ، عالمٌ لا مكانىّ و لا زمانى ، كما أن أصابعى أشبه بمطفأة سجائر تقليدية هى عبارة عن قوقعة بحرية ميتة ، يضعها المصريون فى حجرات الصالون ، وها أنا أحلق ذقنى بتأن ، وأطمئن على سلامة هيئتى ، رغم الندوب الصغيرة التي تركتها ماكينة الحلاقة فوق بشرتى ، لكن وجهى مستدير بض ، على الرغم من كرمشة الشيخوخة فى خطوطها الكثيرة المتوازية ، انظروا إلى فتحة فمى العرضية ، إنها تعطى شكل ابتسامة واسعة ، وكرافتة البهلوانات على رقبتى عريضة ، عريضة جداً ، وعليها دوائر ملونة من جميع الألوان ، هى السعادة إذن ، على الرغم من الآلام الشديدة فى أمعائى ، وإصابتى بهذه الغازات التى لا يمكن التحكم فيها .

تمارين في قلب السماء
أحلقُ ذقنى بتأن، بحكمةٍ مشهودٍ لها، فأنا خيرُ من ينجزُ الأعمال، ثم أديرُ التلفزيون، وعلى الشاشةِ وجهُ "عبدُ الحليمِ" يبكى على الحبيب، ويغمضُ عينيه ويهزُّ رأسَه يميناً ويساراً معبراً عن الحُرْقةِ والحنين، كان يبحثُ عن اللذةِ من خلالِ الألم، والحزنُ وسيلتُهُ للتخلصِ من ضغوطِ الواقع، الواقعِ الملىءِ بالبطالةِ والتدهور، وبالرغم من ذلك، فسوف نسعى لأن نخلقَ البيئةَ المناسبةَ لبناءِ المستقبل، سنستخدمُ كلَّ الوسائلِ للوصولِ إلى التقدّم ، سنستخدمُ البريدَ الإلكترونىّ، والهواتفَ الخلويّة، وكذلك المنتدياتِ الإلكترونيّةَ على الشبكة، كلَّ المنتدياتِ حتى الفارغِ منها ، سنستغلُّ كلَّ شىءٍ من أجلِ التقدّم ، ولكن لا يجبُ أن ننسى أنفسَنا : فنمشى نطوّحُ رؤوسَنا ذات اليمينِ وذات اليسار ، ونحن نتغنى بالأغانى الوطنيّةِ الشهيرة، قد نتوهُ فى شوارعَ لا آخرَ لها، قد نتوهُ عند مواقفِ السيارات , وبين المقاهى المزدحمة، سنمشى وراءَ الفتياتِ ذوات البنطلوناتِ الستريتش، والشعرِ المنسابِ بعفويّةٍ لأسفل، لكى نتغنى بالأناشيدِ الوطنيّةِ الشهيرة، ستكونُ الدموعُ فى عيونِنا، وسينظرُ لنا الناس متعجبين، وسيمشون خلفَنا فى طوابيرَ لا نهايةَ لها، لكى نُكَوِّن جيشَ الخلاص، فنسيرُ جميعاً حتى أبوابِ الملاهى بميدانِ الجيزة، وعندما يفتحون لنا الأبوابَ سنجرى بكلِّ سرعتِنا، لكى نستقلَّ الأراجيحَ الدائريَّةَ التى ستصلُ بنا فى دورتِها الواسعةِ حتى كبدِ السماء، فيكونُ المشهدُ مثيراً للغاية، وسوف أشعرُ بالضوءِ هالاتٍ تنبعثُ من رؤوسِنا هالاتٍ هالات.
وهناك فكرةٌ رائعة، هى أننا يمكنُنا، ونحن موزعون على الامتدادِ الدائرىّ الهائلِ للأرجوحةِ فى قلبِ السماء، يمكنُنا أن يمسكَ كلُّ واحدٍ منا بكتاب، وما أجملُ الاطلاعُ ونحن فى قلبِ السماء. وسوف يتبرعُ من أجلِنا كبارُ الناشرين بأفضلِ الكتبِ التى لديهم، الكتبِ المذهّبةِ الأغلفة، ذات الحروفِ البارزةِ السميكةِ واللوحاتِ المبهرة، وسنمـارسُ الاطلاع، ونحن فى قلبِ السماء، سنمارسُ الاطلاعَ عميقاً عميقا.
لن نكتفىَ بالكتبِ الروحانيّة ، ولا بالكتبِ الماديّة ، بل سنقرأ فى كلِّ شىء، سنقرأ فى أنثروبولوجيا الذهن، وفى المربعِ السحرىّ، وسنقرأ عن تيمورِ الشرقية، وميتافيزيقـا الخوف، ولن نكتفىَ بالقراءة، بل سيقفُ كلٌّ منا فى أرجوحتِه، لكى يلقىَ بخطابٍ نارىٍ عن مستقبلِ الوطن، ولأن وطنَنَا ديمقراطى، ولأن وطنَنا متسامحٌ وحنون، فسوف يصفحُ عن الكثيرِ من الزِّلاّتِ التى ستهدرُ بها ألسنتُنا، فنحن لا زلنا صغاراً، حمقى، ووطنُنا، وطنُ التسامحِ والرقةِ والحنان الذى لانهايةَ له.

هـــــــــــــــل سأمثِّل دَوْر جَــــــــدّ
هل ستظلُّ نظراتُنا هكذا متسائلة ، بل خائفةً تفيضُ بالرِيْبةِ والحذر .. هل ستظلُّ العزلةُ هكذا مضروبةً حولنا ، أحسُّ باختناقِ العزلة ، العزلةِ الوحشية ، أصبحنا مثل "دون كيشوت" ، نريدُ أن نتحقق ، أن نفعلَ أىَّ شىءٍ يشغِلُ بالَ الآخرين ، ومن هنا يكونُ ما بعد المحدثين نسبيّين وحسيّين .
كنت فى حجرتى أسمعُ صوتَ الحذاءِ النسوىّ فى الخارجِ بوضوح ، والعقلُ يضربُ فى متاهتِه ، الشيخوخةُ تغزونى ، البطنُ المترهّلةُ فوق الحزامِ الجلدىّ ، وهاهو الشَعْرُ قد تساقط ، والشَيْبُ بدأ يشتعلُ فى رأسى ، أظلُّ أفكِّر ، وحياتُنا لا تكادُ تُطاقُ بدونِ الأوهام ، لا حدودَ للبوْح لدىّ ، أحلمُ بالتحرّر ، التحرّر من كلِّ أشكالِ الاستغلالِ والاستلاب : من النافذةِ أنظرُ للرجلِ الذى يرفعُ غطاءَ السيارةِ الأمامىّ إلى أعلى ، ويغرقُ بمنتصفِ جسدِهِ فى داخلِ السيّارة ، ولا يريدُ أن ينتهى ، يمرُّ الوقتُ وهو لا يريدُ أن ينتهى ، أريد للُغتى أن تَنْهَلَ مما هو قدْسىّ ، أو تظل على الأقلِّ على حافةِ القدسىّ ، أريدُ للُغتى أن تكونَ طازجة ، ويمكنُنى ، مثلاً ، لكى أحافظَ على هذه الطزاجةِ أن أصفَ الفتياتِ اللائى يخرجن لشراءِ الثياب ، يمضِّين ساعـاتٍ يجربْن الملابس ، ويمشين بأصابِعِهِن الطويلةِ الناعمةِ فوق مشدَّاتِ الصدر ، أو يتحسّسْن انضباطَ المقاسِ على الامتلاءِ المثالىّ للفخذين، ويراقبن ، بعيونٍ فاحصة ، صوَرَهُن فى المرايا ثلاثيةِ الأبعاد ، ويتأكدْن من مسقطِ النّظرِ فوق الزاويةِ الداخليّةِ للنهدين، ويَدْعَكْن ملمسَ القماشِ على هَضَبَةِ البطن ، ويترددنَ طويلاً فى اختيارِ الألوانِ التى تناسبُ جوعَ الجسد .
كانت صورةُ المقتولِ فى حادثةِ السيارةِ فظيعاً ، سقفُ السيارةِ مطبَّقٌ فوق ظهرِهِ والدَّواسَةُ اخترقت الصَدْر ، وشظايا الزجاجِ مرشَّقةٌ فى اللحمِ والملابس ، والرأسُ شبه مهشّم ، والدماءُ الغليظةُ اللَّزِجَةُ تملأ الفجوات .
حين يشيخُ المرء ، يميلُ للتذكّر : تذكّرِ الصّورِ والأسماءِ والمواقف ، ومن دلائلِ الشيخوخةِ أيضاً، الإحساسُ بسرعةِ الزَّمن ، وملاحظةُ أن الممثلين فى المسلسلاتِ تحولوا من أداءِ أدوارِ الشبابِ إلى أداءِ أدوارِ الشيوخ : قضيتُ عمرى أنادى بإمكانيّةِ أن يحدثَ الاندماجُ بين الأساليبِ غيرِ المتشابهة ، كانت العولمةُ تحيطُ بى ، وأنا أغمسُ رأسى فى فجوةِ الوسادةِ التى كان الرأسُ يملؤُها، مستلقياً، واضعاً رجلاً على رجلٍ والسقفُ يتأرْجَحُ على القدمين، ومن ثمَّ أطرحُ اسئلتى الملحةَ المقلقة: هل الحسُّ الطفولىّ الذى أريدُ أن أطرحَه بقوةٍ سأستطيعُ أن أستحضرَه فى أىِّ لحظة ؟ هل الفتاةُ التى اشترت هذا المعطفَ الإيطالىّ المحاطَ بالزغبِ الأبيضِ الناعم ، المعطفِ ذى الأكمامِ المنتفخةِ من الصوفِ الطبيعى ، هل ستنامُ فى داخلِهِ من فرطِ الَّلذةِ الغامضةِ والدفء ؟ هل هذا الازدحامُ العنيفُ فى شوارعِ حلوان الجانبيةِ يخلو من أىّ معنى سوى تنافسٍ وحشىٍّ على البقاء .
يغيبُ الوجهُ فى دُكْنةِ الظلال ، وذاكرةُ الشكل ، تملأ التصوّرَ : توالى البيوتِ بتورياتِها وايهاماتِها وتعبيراتِها ، تتراصُّ فوق الدروبِ الإسمنتيّةِ الحزينة ، أصابتْنى حالةٌ من نسيانِ الشيوخِ : يكونُ الاسم على طرفِ اللسان، وأنساه ، وأظلُّ أفكّرُ باعتبارى شيخاً كيف أن الساعةَ الصغيرةَ على معصمى تعُدُّ الدقائقَ بالعقارب . أما الساعات الكبرى فلا تنشغلُ بعدِّ الدقائقِ ، ولكن تنشغِلُ بعدِّ القرون والأحقابِ السحيقة : ضيقٌ فى الشرايين والأوعيةِ الدمويّة ، "الفلاشُ" فى شبكيّةِ العين ، والمجراتُ تبتعدُ عن بعضِها بسرعاتٍ هائلة ، المجراتُ تبتعدُ عنى الآن بسرعةٍ لا يتخيلُها أحد . هل تسمعون صوتَ مِلعقتى وهى تدورُ بإلحاحٍ فى كوبِ الشاى، أنا لستُ على ما يرام ، تصطدمُ أنوارُ السياراتِ بزجاجِ النافذةِ فتضىءُ حجرتى الحزينة ، وهناك شىءٌ من إحساسِ النشوةِ عند وضعِ القدمِ الحافيةِ على البلاطِ البارد .

قد أغرق فى الضباب ثانية ..
ـ 1 ـ
أقف لكى أصنع قهوتى
فوق عين البوتجاز الصغيرة ،
والعقل يحس بالأزمة الشاملة
الأزمة التى تحتاج إلى التنوير :
الطفيليون
والسماسرة
يمزقون رأسى
والمهربون يمزقون بدنى قطعة قطعة .
ـ 2 ـ
يغلى الماء فى إبريق القهوة ،
والوعى الزائف
يغطى كل شىء
إلى درجة الشعور بالعدمية
ـ 3 ـ
الكفان بالذات
يجعلاننى أحس باشتراكى مع الكائنات
الديناصور التاريخى كان يمتلك مثل هذين الكفين
وها أنذا أصعد السلم بتثاقل ،
والثقافة تتضائل
تتضائل
وتنتقل إلى هامش الهامش .
ـ 4 ـ
سيلتف الشعراء والكتاب
حول معنى بسيط ،
وسيحققون الكثير ،
وسأعود أنا ،
فأخيركم بين أربعة خيارات :
ـ الرجال الإيجابيون إلى أقصى درجة
ـ حلم البنت بأمها
ـ أربعة كراسى سفرة زان منجدة
ـ الفلاحون بجلاليب الكتان
ـ 5 ـ
انظروا إننى أزعق فى الطريق العام ،
موضحاً التغيرات الهائلة الجذرية
طوال العقود الماضية ،
فتلتفت لى فتاة صغيرة بضة الجبين والخدين ،
تربت فوق ظهرى وتصاحبنى :
انظرى ياصغيرتى
الهزات الزلزالية
تأخذ شكلها الكاسح الآن ..
ـ 6 ـ
وبالرغم من القذارة الباذخة فى الشوارع ،
و إطارات الكاوتشوك الملقاة ،
وبقايا العلب الفارغة
فسوف نسهر فى الطرقات
حتى الصباح نناقش "البيرفورمانس" ،
ونغنى من منطقة السوبرانو
بفداحة :
الأرض تحب السمـاء
والسماء تدور كالدوامة
ـ 7 ـ
بصماتى يمكن أن يرفعوها
من على الورد
ومن على أجنحة العصافير
ومن على النهود الصغيرة التى فى حجم التين الطرى .
 ـ 8 ـ
كل هذه العقبات التى تواجهنا ، والمواقف التى تستدرجنا إلى العنف ، وأنا أميل إلى تحويل ما هو ذاتى إلى ما هو موضوعى ، وإيقاف ماهو جارف ، وتحريك ما هو سـاكن ، أنا أميل إلى تغريب ما هو شائع ، وتحويل الخارق إلى شئ عادى أنا المخرف المسحور : أجد نفسى فجأة فى قلب الأحداث فأضطر إلى الغناء هكذا .
ـ 9 ـ
عندما سقطت كومة الكتب ، وفرشت الأرض
احتفظتُ بالمؤثرات الصوتيه
وأخذت أتخيل التفجير القادم
قصيدة النثر القادمة
المكاسب المعنوية القادمة
الوطن القادم .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق